فصل: مسألة يستعين الرجل من أهل الغنا أهل ناحيته منهم الغني والفقير فيعينونه في الحرب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة الإيمان قول وعمل:

في أن الإيمان قول وعمل قال فقلنا لمالك: فالإيمان قول وعمل أو قول بلا عمل؟ قال مالك: بل قول وعمل. قال ابن القاسم وحدثني عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم عن ابن ذكوان عن الأوزاعي قال: «قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فرقتان من أمتي في النار مكذب بقدر الله ومفرق بين إيمان وعمل». قلت فهل كان مالك يقول لا تكفروا أهل التوحيد بذنب، ولا تشركوهم؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: لما سأله عن الإيمان هل هو قول وعمل أو قول بلا عمل فقال بل قول وعمل، أوجب أن الإيمان لا يكون إلا بالقول مع العمل، وأنه لا يكون بالقول وحده إذا تجرد عن العمل، وهو صحيح؛ لأن العمل ينقسم على قسمين: أحدهما عمل القلب، والثاني عمل الجوارح. فأما عمل القلب فإنه شرط في صحة الإيمان؛ لأن الإيمان هو التصديق الحاصل في القلب بأن الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله. فمن قال بلسانه لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولم يعتقد تصديق ذلك بقلبه فليس بمؤمن. وأما أعمال الأبدان من الوضوء والصلاة وسائر الطاعات، فإنها ليست بشرط في صحة الإيمان، وإنما الإيمان، هو شرط في صحتها إذا وجبت عليه بدخول وقتها؛ لأن الرجل إذا أسلم وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له واعتقد تصديق ذلك بقلبه، فهو مؤمن كامل الإيمان بإجماع من أهل العلم إن مات بفور ذلك قبل أن تجب عليه الصلاة بدخول وقتها كان من أهل الجنة، وإن لم يمت حتى وجبت عليه الصلاة بدخول وقتها لم تصح له الصلاة إلا بمقارنة الإيمان لها الذي هو شرط في صحتها كما ذكرناه. هذا ما لا اختلاف فيه ولا امتراء في صحته. وإن ترك الصلاة فلم يصلها بسهو أو نوم أو غفلة أو نسيان لم يقدح ذلك في صحة إيمانه، وكذلك إن تركها عمدا وهو مقر بفرضها ووجوبها لم يقدح ذلك أيضا في صحة إيمانه إلا أنه آثم عاص لله عز وجل، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة فمن جاء بهن لم يضيع شيئا منهن استخفافا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة» بيانا لما في كتاب الله عز وجل من قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]. فقول مالك إن الإيمان لا يكون إلا بقول مع العمل، معناه مع عمل القلب وهو التصديق، لا مع عمل الأبدان على ما بيناه. فقول من قال من أهل السنة إن الإيمان قول باللسان وإخلاص بالقلب وعمل بالجوارح، معناه أن هذا هو الإيمان الكامل الذي يكون العبد به مؤمنا في الظاهر والباطن؛ لأنه مؤمن عند الله في الباطن بما يعلمه من إخلاص قلبه، وهو مؤمن عندنا في الظاهر بما نسمعه من شهادته ونراه من صلاته؛ لأن ما نسمعه من شهادته ونراه من صلاته ليس بإيمان، وإنما هو دليل على الإيمان، فيحكم له بحكمه بما ظهر إلينا من قوله وفعله. ولو قال أنا مؤمن وأبى أن يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، أو قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وأبى أن يصلي، لم نصدقه في أنه مؤمن واستتبناه، فإن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وصلى، وإلا قتلناه. ولما كانت الشهادة والصلاة لا تكون واحدة منهما طاعة وقربة إلا مع مقارنة الإيمان لها الذي هو التصديق الحاصل في القلب، جاز أن يسمى كل واحد منهما إيمانا. قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] أي صلاتكم إلى بيت المقدس؛ لأنها كانت بالإيمان الذي هو شرط في صحتها.
وقوله في الحديث: «فرقتان من أمتي في النار مكذب بقدر الله ومفرق بين إيمان وعمل» فالمكذبون بقدر الله هم القدرية الذين يقولون إنهم خالقون لأفعالهم لا قدرة لله على منعهم مما يريدون أن يفعلوه، والمفرقون بين الإيمان والعمل هم المرجئة الذين يقولون: إن الإيمان هو الواجب دون. ما سواه من الأعمال، وإنه لا يضر مع الإيمان ترك عمل من الأعمال. وظاهر ما في الحديث من قوله في الفرقتين إنهما في النار، أنهما يخلدان فيها كفارا بما يعتقدانه من ذلك. ويحتمل أن يكون معناه أنهما في النار غير مخلدين فيها، إذ ليسوا بكفار لإقرارهما بالتوحيد والشهادة. وقد اختلف في تكفيرهم بمآل قولهم، فقيل: إنهم لا يكفرون بذلك، وهو قول مالك في هذه الرواية، ودليل قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخوارج وتتمارى في الفوق، وفيما روي في الفرق، وقيل إنهم يكفرون بذلك، وهو قوله في سماع ابن القاسم من كتاب المرتدين والمحاربين، وبالله التوفيق.

.مسألة بعض ما روي من الرؤيا:

فيما روي من الرؤيا قال سحنون سمعت ابن القاسم يقول: أخبرني سليمان بن القاسم قال: سمعت أبا السمحاء يقول: أتاني آت في منامي فقال: نعم عمل الحج لولا المناهل. وبلغني أن عبد الله بن جعفر رأى في منامه أنه أهدي له طبق فيه رأس خنزير عليه منديل لا يلصق به، فلما أصبح أهدي إليه تمر من حلوان عليه منديل لا يلصق به.
قال محمد بن رشد: كذا وقع في الكتاب سمعت أبا السمحاء، وصوابه سمعت أبا السمح. وتأويل ما قيل له في منامه، والله أعلم، أنه نبه على شيء فعله من المكروه في بعض مناهله التي نزل فيها في طريقه إلى الحج على سبيل التحذير له أن لا يعود إلى فعل مثل ذلك. وذلك في المعنى مثل ما رأى عبد الله بن جعفر من أنه أهدي له طبق فيه رأس خنزير عليه منديل لا يلصق به؛ لأن ذلك تنبيه له في منامه على التوقي من قبول شيء يهدى له من غير حله، فكان ذلك التمر الذي أهدي له حين أصبح من تمر حلوان. وحلوان: قرية من قرى مصر، وكان التمر الذي أهدي إليه من مال مغصوب منها والله أعلم.
ورأيت في جامع المستخرجة المنسوبة لابن أبي زيد وقد وصل بما قيل لأبي السمح في منامه من قوله نعم عمل الحج لولا المناهل، يريد أنها مغصوبة وذلك لا يستقيم، إذ لا يصح أن يقال فيما قيل للرجل في منامه إن القائل لك في منامك كذا وكذا أراد به كذا وكذا، إذ ليس ما يكلم به في منامه بكلام على الحقيقة ولا ما يراه في منامه بمرئي على الحقيقة، وإنما هي تشبيهات وتمثيلات يراها الرائي في منامه فتعبر على ما يظهر من معانيها. فقد رأى الملك بحضرة يوسف عَلَيْهِ السَّلَامُ {سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} [يوسف: 43]، فعبرها يوسف عَلَيْهِ السَّلَامُ بما ظهر إليه من معانيها بأنها سنون سبع تأكل ما رفع الناس فيها سنون سبع جدبة. ورأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة أحد في منامه أن في سيفه ثلمة وأن بقرا له تذبح وأنه أدخل يده في درع حصينة فتأولها أن نفرا من أصحابه يقتلون، وأن رجلا من أهل بيته يصاب، وأن الدرع الحصينة المدينة. وقد يكون من الرؤيا ما يخرج على ما يراه الرائي دون تأويل ولا تعبير، من ذلك ما أخبر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أنه رأى عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا في سرقة من حرير. جاء «عن عائشة أنها قالت، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أريتك في المنام مرتين إذا رجل يحملك في سرقة حرير، ويقول هذه امرأتك فاكشف عنها، فإذا هي أنت فأقول إن يكن هذا من عند الله يمضه». ومعنى قوله: إن يكن هذا من عند الله يمضه، أي إن تكن هذه الرؤيا من الرؤيا التي هي على وجهها دون تأويل ولا تعبير يمضه. ويحتمل أن يكون المعنى في ذلك أن هذا من عند الله فهو ماض لا شك فيه، وبالله التوفيق لا شريك له.

.مسألة ما ذكر في فضل ابن القاسم:

في ثناء ابن وهب على ابن القاسم قال وسمعت ابن وهب يقول لما مات ابن القاسم قال: أخي وصاحبي في هذا المسجد منذ أربعين سنة، ما رحت رواحا ولا غدوت غدوا قط إلى هذا المسجد مسجد الفسطاط أريد أن أستر به نفسي إلا وجدته قد سبقني إليه.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، ولا يعرف الفضل لأولي الفضل إلا أولو الفضل، وبالله التوفيق.

.مسألة ما أوصى به علي بن الحسين:

فيما أوصى به علي بن الحسين:
وسمعت سفيان بن عيينة يقول: هلك علي بن الحسين بموضع يقال له سكن، فأوصى أن تعتق كل أمة له ذات ولد حي من رأس ماله، وكل أم ولد ليس لها ولد تعتق من ثلثه، وهلك عن اثنين وعشرين فرجا، وكان يقطع كميه عند أطراف أصابعه.
قال محمد بن رشد: فيما أوصى به علي بن الحسين من عتق بعض أمهات أولاده من رأس ماله وبعضهن من ثلثه، دليل على أن الحكم كان في وقت وصيته بجواز بيع أمهات الأولاد، وهو مذهب داود القياسي والرافضة وأهل الظاهر. واحتج من نصر قولهم بقول الله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، روي عن جابر بن عبد الله أنه قال: «كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر بن الخطاب، ثم نهانا عمر عن بيعهن». وهذا كله لا حجة لهم فيه: أما الآية التي احتجوا بظاهرها من القرآن قوله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] فإنه يتخصص بما جاء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قوله عند ولادة مارية القبطية لابنه إبراهيم: أعتقها ولدها، يريد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه ثبت لها حرمة بسبب ولدها، فلا تعود إلى الرق أبدا أو لا يجوز بيعها ولا هبتها، لا أنها بتلت حريتها؛ لأنه بقي له فيها الاستمتاع طول حياته، بدليل ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حديث ابن عباس أنه قال: «أيما أمة ولدت من سيدها فهي حرة بعده». وهذا قول مالك رَحِمَهُ اللَّهُ وكافة فقهاء الأمصار. وقد كان بين الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ في ذلك اختلاف، فذهب منهم إلى إجازة بيعهن عبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن قيس أبو موسى الأشعري. وقال عبد الله بن مسعود: تعتق من نصيب ولدها، إلى أن فحص عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن أمرهن وكشفه، فاجتمع هو ومن بقي من العشرة ومن المهاجرين والأنصار على أنهن متعة لساداتهن ما عاشوا، ثم هن بعد موتهم أحرار من رءوس أموالهم، فانعقد الإجماع على هذا من حينئذ، واستمر الأمر عليه إلى أيام عبد الملك بن مروان، إلا ما يذكر من رجوع علي بن أبي طالب أيام خلافته إلى إجازة بيعهن في الدين، ثم اضطرب في أمرهن، ففحص عبد الملك عن ذلك فأخبره الزهري عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب أمضى ما وصفت عنه، فأقر ذلك وكتب به إلى البلدان.
وقوله: إنه كان يقطع كميه عند أطراف أصابعه مما يستحب؛ لأنه من التواضع الذي يبعد عن الكبر. وقد مضى في أول رسم من سماع ابن القاسم أن سعد بن معاذ مر بعائشة وهي في أطم من الأطام وعليه درع مفاضة مشمرة الكمين فأعجبها ذلك وقالت: ما أخاف على الرجل إلا من أطرافه. وقد مضى الكلام على ذلك هنالك، وبالله التوفيق.

.مسألة ما يروى من فضل ابن القاسم:

فيما يروى من فضل ابن القاسم وسمعته يقول: حج ابن القاسم سبع عشرة حجة، ما كانت تبلغ نفقته في حجته إلا عشرة دنانير وما يشبهها. قال وسمعت ابن القاسم يقول: ما خرجت إلى مالك إلا وأنا عالم بقوله. قال سحنون يريد أنه يعلم من عبد الرحمن وطلب وسعد، وكانوا عنده أوثق أصحاب مالك.
قال محمد بن رشد: كان ابن القاسم رَحِمَهُ اللَّهُ من أحدث أصحاب مالك بمصر سنا وأحدثهم طلبا وأعلمهم بعلم مالك وآمنهم عليه، وكان من الخيار الفضلاء. قال يحيى بن يحيى: تذاكرنا يوما مع ابن القاسم هذا الأمر، فكلنا قال الورع أشد ما في هذا الدين، فقال لنا ابن القاسم: ما هو عندي كذا، فقلت له: يا أبا عبد الله، كيف ذلك؟ فقال لي: لأنا أمرنا ونهينا، فمن فعل ما أمر به وترك ما نهي عنه كان أورع الناس. فقلت له: يا أبا عبد الله، لقد خفف الله عليك ما ثقل على غيرك، فأي شيء وجدت من هذا الأمر أثقل؟ فقال: ما وجدت شيئا أثقل علي من مكابدة آخر الليل. قال يحيى بن يحيى: لما قرأنا كتب أسد على ابن القاسم وضع أشهب يده في مثلها فخالفه في جلها أو في أكثرها، فقلت لابن القاسم: يا أبا عبد الله، لو أعدت نظرك في هذا الكتاب، فإن صاحبك قد خالفك، فما وافقك عليه أقررته، وما خالفك فيه أجدت النظر فيه وأنعمت، فقال لي: سأفعل إن شاء الله. فلما كان بعد أيام تقاضيته، فقال لي: يا أبا محمد، نظرت في مقالتك فوجدت إجابتي يوم أجبت كانت لله وحده، فرجوت أن أوفق، وإجابتي الساعة إنما تكون نقضا على صاحبي فأخاف أن لا أوفق في الأجوبة والرد فتركت ذلك، وبالله التوفيق.

.مسألة ما ذكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الغيرة من النساء:

فيما ذكر عن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في الغيرة قال سحنون أخبرني سفيان بن عيينة عن أبي طوالة قال: اشتكى رجل إلى عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ غيرة امرأته، فقال له عمر: إني لأخرج لحاجة فيقال لي إنما خرجت إلى فتاة بني فلان، فقال له ابن مسعود: أوما علمت أن إبراهيم قد شكا إلى الله ما كان يجد من غيرة سارة، فأوحى الله عز وجل إليه أن ألبسها على ما كان فيها إلا أن تجد جرحة في دينها.
قال محمد بن رشد: في هذا أن النساء يدركهن من الغيرة على الرجال ما يدرك الرجال من الغيرة على النساء. فينبغي أن يعذر النساء فيما يدركهن من ذلك، إذ هو أمر يغلبهن ولا يثرب عليهن فيه، كما كان يفعل عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فيما كان يقال له في ذلك على جزالته ومهابته، وعلى ما أوحى الله عز وجل به إلى إبراهيم عَلَيْهِ السَّلَامُ فيما شكا إليه من غيرة سارة، وبالله التوفيق.

.مسألة فضل شهود صلاة الجماعة:

في فضل شهود صلاة الجماعة وحدثني عن الحماني قال، حدثنا إسماعيل بن عباس عن عمارة بن عرية عن أنس بن مالك قال، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من صلى أربعين ليلة في جماعة لا تفوته الركعة الأولى أعتقه الله من النار».
قال محمد بن رشد: فضائل الصلاة أكثر من أن تحصى. قال الله عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2]، وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15]، وسئل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أفضل الأعمال فقال: الصلاة لأول ميقاتها، وقال: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءا» وقال: «إنما مثل الصلاة كمثل نهر عذب غمر بباب أحدكم يقتحم فيه كل يوم خمس مرات فما ترون ذلك يبقي من درنه» يريد أن الصلوات تكفر السيئات. وقال عثمان بن عفان سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «ما من امرئ يتوضأ فيحسن الوضوء ثم يصلي الصلاة إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى حتى يصليها» وبالله التوفيق.

.مسألة معاملة من لا يؤتي زكاة ماله:

في معاملة من لا يؤتي زكاة ماله وسئل أصبغ: هل يجوز الاشتراء من طعام رجل يعلم أنه لا يخرج زكاته؟ وهل يجوز البيع منه بالناض وهو ممن لا يزكي؟ فإن اشترى مشتر أو باع ما الذي يجب عليه حتى يطيب له ما اشترى فيما بينه وبين الله تعالى؟ وهل ترى إن ادعى مشتري هذا الطعام أن تركه إخراج الزكاة عيبا وأراد فسخ البيع هل يكون القول قوله، ويرد إذا كان بمكان لا يجبر السلطان الناس على إخراج الزكاة؟ وكيف إن كان له مال أو لم يكن؟ قال أصبغ: أرى ماله كله فاسدا لا يجوز أن يؤكل منه شيء دون شيء ولا يشرب، ولا يجوز أن يباع ولا يشترى؟ فلا يبايع فيه ولا يعامل، وإن عامله فيه أحد رأيت أن يخرجه كله ويخرج منه ويتصدق به، كمال عاصر الخمر والمربي والغاصب والظالم، فهذا غاصب ومتعد على أموال المساكين وابن السبيل وسبيل الله وسائر السهمان إذا حبسه كان كمن غصبه وخلطه بماله وكسب به وعليه وفيه ولم يميز شيئا من شيء، فهو فاسد كله.
وقد سمعت سفيان بن عيينة وذكره فقال: ليس من ظلم واحدا كمن ظلم الناس أجمعين، فإذا حبس الزكاة فهو كمن ظلم الناس أجمعين؛ لأن فيه حق الفقراء والمساكين وابن السبيل والغارمين وفي سبيل الله والرقاب وغير صنف، فهو ظالم لهؤلاء أجمعين. قال وسمعت عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يقول في قول الله تعالى وتبارك: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141]، قال هي للناس وللسلطان مقسومة، الذي يحبسه والذي يتعدى فيه فيأخذه بغير حقه أو يضعه في غير حقه.
قال وحدثنا ابن القاسم يرفع الحديث وبلغه «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين دفع من عرفة وبلغ الشعب نزل فبال، ثم نادى بوضوء فتوضأ، ثم قال: لا وضوء لمن لا صلاة له ثلاث مرات، ثم قال: لا صلاة لمن لا زكاة له ثلاث مرات. مانع الزكاة في النار» والمتعدي فيها كمانعها. قال المتعدي فيها بأخذها وحبسها عن حقها فاسد كله. وإن عرف منه منع الزكاة رأيت للمشتري الرد؛ لأني لا أطيب له الحبس، فإذا لم أطيب له الحبس جعلت له الرد.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ هذا إن مال الذي لا يؤدي زكاة ماله فاسد كله لا يجوز أن يؤكل منه شيء ولا يشرب، وما لا يؤكل ولا يشرب لا يجوز أن يباع ولا يشترى، وإن من عامله فيه يتصدق بجميعه، هو على قياس قوله المعلوم من مذهبه الذي ذكرناه عنه في سماع عبد الملك بن الحسن من أن المال الذي خالطه الحرام حرام كله، تجب الصدقة بجميعه، ويجب على من أخذ منه شيئا بمعاملة أن يتصدق بما أخذ، وهو تشديد على غير قياس. والقياس أنه لا يلزمه أن يتصدق منه إلا بمقدار الحرام، وأن معاملته فيه جائزة، وهو مذهب ابن القاسم. وكذلك قبول هبته يجوز على مذهبه إذا كان الحلال من ماله أكثر من الذي وهب منه.
ووجه قول أصبغ أن ماله كله إذا لم يؤد زكاته فاسد لا يجوز أن يؤكل منه شيء ولا يشرب، يريد لا هو ولا غيره، هو أنه لما كانت الزكاة الواجبة للمساكين شائعة فيه قد عزم على اقتطاعها وغصبهم إياها كان إذا أكل منه قليلا أو كثيرا قد أكل حقه وحقهم، فحرم ذلك عليه، بخلاف إذا أكل منه شيئا قبل أن يؤدي زكاته وهو ينوي أداءها مما بقي؛ لأن هذا إنما يكون عليه إثم تأخير الزكاة لا أكثر. وكذلك إذا وهب لأحد منه شيئا قبل أن يؤدي زكاته وهو عازم على اقتطاعها لا يسوغ على مذهبه لمن علم ذلك أن يقبله؛ لأنه يكون قد أخذ فيما وهب له ما فيه حظ للمساكين، بخلاف إذا وهب لأحد منه شيئا قبل أن يؤدي زكاته وهو ينوي أداءها مما بقي؛ لأن هذا يسوغ للموهوب له أن يقبله ويكون على الواهب إثم تأخير الزكاة لا أكثر.
وأما قول أصبغ إن من أخذ منه شيئا بمعاملة أو هبة يجب عليه أن يتصدق بجميعه فلا وجه له؛ لأن الواجب عليه في ذلك إنما هو أن يتصدق على المساكين بما وجب لهم منه، وهو ربع عشره. وقد مضى بيان هذا في سماع أصبغ في تكلمنا على ما جاء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أن ثمن المغنيات حرام. وقد مضى في سماع عبد الملك بن الحسن القول فيما احتج به من قوله عز وجل: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] فلا وجه لإعادته.
وقوله في الحديث الذي احتج به من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا وضوء لمن لا صلاة له» بين لا إشكال فيه؛ لأن الوضوء إنما يفعل للصلاة أو لما لا يصح فعله إلا بطهارة، فإذا لم يفعل ما يفعل الوضوء من أجله لم ينتفع بالوضوء. وأما قوله: «لا صلاة لمن لا زكاة له» فمعناه أنه لا ينوب فعل الصلاة عن فعل الزكاة، أي لا يكفر فعل الصلاة ترك الزكاة، فتكون الصلاة إذا لم يزك صلاة توجب له الدخول في الجنة، كما توجب لمن صلى وزكى، أو لمن صلى ولم تجب عليه زكاة. ومساواته في الرواية بين المتعدي في أخذها وحبسها بين؛ لأن حابسها آخذ لها ومتعد في ذلك، فهو كالمتعدي في أخذها ممن لا تجب عليه.
وقوله في آخر المسألة: وإن عرف منه منع الزكاة رأيت للمشتري الرد؛ لأني لا أطيب له الحبس، فإذا لم أطيب له الحبس رأيت له الرد، صحيح على أصله في أن من لم يؤد زكاة ماله لا تجوز معاملته ويجب على من عامله الصدقة بجميع ما أخذه منه. فسواء على مذهبه ابتاع منه الطعام الذي لم يؤد زكاته أو باع منه شيئا بدنانير لم يؤد زكاتها له الرد في الوجهين جميعا. وقد قيل: ليس له أن يرد في الوجهين جميعا، وهو الذي يأتي على قول غير ابن القاسم في المدونة في الذي يبيع الثمرة بعد أن وجبت فيها الزكاة فيجدها المصدق في يد المشتري، أنه لا سبيل له عليها وإن كان البائع عديما، وقيل: إن ذلك له في الطعام الذي ابتاعه، وليس ذلك له فيما باع منه بدنانير، وهو الذي يأتي على مذهب من لا يجيز بيع الثمرة بعد وجوب الزكاة فيها بالطياب، ولا بيع الزرع بعد وجوب الزكاة فيه بالإفراك لوجوب الزكاة، في عين الثمرة وعين الزرع. ولا اختلاف بينهم في أن من باع أو اشترى من مستغرق الذمة بالحرام وهو لا يعلم، أن له الرد؛ لأن من حقه أن يقول: لم أرض بمعاملة مستغرق الذمة بالحرام، وبالله التوفيق.

.مسألة يستعين الرجل من أهل الغنا أهل ناحيته منهم الغني والفقير فيعينونه في الحرب:

من سماع عبد الملك بن عمر بن غانم قلت لمالك: القوم يستعينون في الحرب، يستعين الرجل من أهل الغنا أهل ناحيته منهم الغني والفقير فيعينونه، وذلك أمر ذائع عندنا، قال: لا بأس به. قلت: ما يخشى أن تكون استعانته إياهم من المسألة التي تكره؟ قال: لا، لعمري ما بهذا بأس أن يستعين رجل دابة رجل يركبها أو شيئا من متاعه على وجه المعروف، بل أكره ترك هذا يضيق الرجل الإسلام، وهذا من الأخلاق الحسنة. قال قلت: فالرجل يسأل امرأته أن تضع عنه صداقها على غير إكراه لها ولا إضرار منه بها، ولكن على وجه الطلبة فتفعل، هل ترى بهذا بأسا؟ فقال: قد أعطاها منه شيئا؟ فقلت: نعم أعطاها النقد وبقي المهر. قال: ليس بذلك بأس، قال الله عز وجل: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4].
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، إذ ليس شيء مما ذكره من معنى المسألة المكروهة وإنما هو من المعروف الذي ينبغي للناس أن يتوامروه فيما بينهم، قال الله عز وجل: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 237]، وبه التوفيق.

.مسألة وضع المرأة جمة الشعر على رأسها:

في وضع المرأة جمة الشعر على رأسها فقال مالك: يا أبا عبد الله، المرأة تضع الجمة من الشعر على رأسها، قال: لا خير في ذلك. قلت: فخرق تجعلها على قفاها وتربط الوقاية عليها؟ قال ليس من عملهن شيء أخف عندي من الخرق. قلت ترجو أن لا يكون بالخرق بأس؟ قال أرجو.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا في سماع أصبغ فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق لا شريك له.

.مسألة النشرة بالأشجار والأدهان:

في النشرة بالأشجار والأدهان قال وسألته عن النشرة بالأشجار والأدهان، قال: لا بأس بذلك قد سحرت عائشة فيما بلغني فأقامت أياما، ثم أتيت في منامها فقيل لها خذي ماء من ثلاث آبار يجري بعضها إلى بعض فاغتسلي به، قال ففعلت فذهب عنها ما كانت تجد.
قال محمد بن رشد: المعنى في جواز هذا بين؛ لأن الأدهان والأشجار قد يكون فيها دواء ينفع من ذلك المرض مع ما يذكر عليها من أسماء الله رجاء التبرك بها، وذلك من نحو الرقى بكتاب الله عز وجل وأسمائه الحسنى، فلا وجه لكراهة ذلك، إذ قد جاء جواز ذلك في الآثار الثابتة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من ذلك ما ذكره مالك في موطئه: أنه «دخل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بابني جعفر بن أبي طالب، فقال لحاضنتهما ما لي أراهما ضارعين، فقالت حاضنتهما: يا رسول الله، إنه تسرع إليهما العين ولم يمنعنا أن نسترقي لهما إلا أنا لا ندري ما يوافقك من ذلك، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استرقوا لهما فإنه لو سبق شيء القدر لسبقته العين». وما حدث به نافع بن جبير «عن عثمان بن أبي العاص: أنه أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال عثمان: وبي وجع قد كان يهلكني، قال: فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: امسحه بيمينك سبع مرات، وقل أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد، قال ففعلت ذلك فأذهب الله ما كان بي، فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم» وبالله التوفيق.

.مسألة صفة السلام على القبر:

في صفة السلام على القبر قيل كيف يسلم على القبر؟ قال: تأتيه من قبل القبلة حتى إذا دنوت منه سلمت وصليت عليه، ودعوت لنفسك ثم انصرفت. قيل له: هل أذكر أبا بكر وعمر؟ قال: نعم إن شئت.
قال محمد بن رشد: قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] فالصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرض في الجملة لا تختص بالصلاة في مذهب مالك وكافة العلماء.
وقال الشافعي: إذا لم يصل المصلي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التشهد الآخر بعد التشهد وقبل التسليم أعاد الصلاة. قال وإن صلى عليه قبل ذلك لم يجزه، وتقلد ذلك أصحابه ومالوا إليه وناظروا عليه. ومن حجتهم أن الله عز وجل أمر بالصلاة على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن يسلم عليه تسليما ثم جاء الأمر منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التشهد فعلمهم فيه كيف يسلمون عليه تسليما، بقوله: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله تعالى وبركاته، وكان يعلمهم التشهد كما يعلمهم السورة من القرآن، وقد قال لهم: إنه يقال في الصلاة لا في غيرها، وقالوا له: قد علمنا السلام عليك، يعنون في التشهد، فكيف الصلاة عليك؟ فعلمهم الصلاة، وقال لهم السلام كما قد علمتم، فدلهم على أن ذلك قرين التشهد في الصلاة.
قالوا: وقد وجدنا الأمة بأجمعها تفعل الأمرين جميعا في صلاتها، فلا يجوز أن يفرق بينهما، ولا تتم صلاة إلا بهما. وروايته عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه وسائر المسلمين قولا وعملا. وحجة من لم يجعل ذلك من فرائض الصلاة حديث ابن مسعود: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ بيده فعلمه التشهد إلى وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وقال له: إذا قلت ذلك فقد قضيت صلاتك، فإن شئت أن تقوم وإن شئت أن تقعد.. وصفة السلام على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قبره كالسلام عليه في تشهد الصلاة: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته؛ والصلاة عليه فيه كالصلاة عليه بعد التشهد في الصلاة قبل التسليم، إلا أنه يقول ذلك بلفظ المخاطب. ومعنى الصلاة عليه الدعاء له، إلا أنه يخص هو وسائر الأنبياء بلفظ الصلاة دون الدعاء، لقول الله عز وجل: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]، فيقول: اللهم صل على محمد ولا يقل اللهم ارحم محمدا واغفر لمحمد وارض عن محمد، ولا يقل اللهم صل على فلان، ويقول اللهم ارحم فلانا واغفر له وارض عنه. هذا هو الاختيار ألا يُصلّى على غير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومن أهل العلم من أجاز الصلاة على غير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستدل بما ذكره مالك في موطئه عن عبد الله بن دينار أنه قال: رأيت عبد الله بن عمر يقف على قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيصلي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى أبي بكر وعمر، وبما جاء في الحديث من قوله: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وقوله: اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته. ومعلوم أن أزواجه وآله وذريته غيره. وبما جاء عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أنه كان إذا أتاه أحد بصدقته صلى عليه، لقول الله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم صل على آل أبي أوفى إذ أتاه أبو أوفى بصدقته. قال عبد الله بن أبي أوفى: «كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل على آل فلان، فأتاه أبي بصدقته فقال اللهم صل على آل أبي أوفى». والأظهر أن يخص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصلاة دون من سواه، إلا أن يضاف إليه في الصلاة عليه، كما جاء في الحديث من قوله: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وقوله: اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته. ولم يتابع جميع الرواة يحيى بن يحيى على روايته: فيصلي على النبي وأبي بكر وعمر. ورواية ابن القاسم: فيصلي على النبي ويدعو لأبي بكر وعمر، وهو دليل قوله في هذه الرواية؛ لأنه قال فيها: قيل له هل أذكر أبا بكر وعمر؟ قال: نعم إن شئت، ولم يقل فيها، قيل: له هل يصلي على أبي بكر وعمر. وأما صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على من كان يصلي عليه ممن كان يأتيه بصدقته فلا دليل فيه للمخالف؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا بخلاف غيره؛ لأن الله عز وجل أمره بذلك، وبالله التوفيق.